كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأورد بعضهم على قوله: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام إلخ أن ذلك مبني على ظن أن الماء في الآية هو الماء العنصري وأنه من بعض الظن إذ ذاك إنما خلق بعد خلق الأرض فكيف يتصور أن يكون العرش الذي خلق قبل السموات والأرض عليه فضلًا عن أن يكون موضوعًا على متنه أو غير موضوع عليه من غير حائل بينهما، وإنما هو الماء الطبيعي النوري العمائي الذي تكون العرش منه، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره، ونظير ذلك ما قاله الكامل بن الكمال: ليس المراد من العرش تاسع الأفلاك، ولا من الماء أحد العناصر لما شهد بذلك شهادة صحيحة لا مرد لها ما أخرجه مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله تعالى ولم يكن معه شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض» فلا وجه للاستدلال به على إمكان الخلاء، وأن الماء أول حادث بل عرشه سبحانه عبارة عن قيوميته بناءًا على أنه في الأصل سرير الملك وهو مظهر سلطانه، والماء إشارة إلى صفة الحياة باعتبار أن منه كل شيء حي، فمعنى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} وكان حيًا قيومًا، وفي لفظة: {على} تنبيه على ترتب أحدهما على الآخر فتدبر انتهى.
ولعل وجه شهادة الخبر بذلك النفي تضمنه على تقدير الإثبات ما ينافي ما تضمنه النفي فيه إذ يكون حينئذ شيآن معه سبحانه فضلًا عن شيء، ولا يخفى أن هذا إنما يتم لو كانت الجملة الماضوية في موضع الحال، والظاهر أنها كغيرها معطوفة على الجملة المستأنفة، وليس في الكلام ما يقتضي أن المعنى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} مع وجوده تعالى بدون معية شيء له ليضطر إلى حمل الماء والعرش على ما علمت من صفتيه تعالى، ولا أرى في الحديث أكثر من إفادة ثبوت ما تضمنته المتعاطفات قبل حلق السموات والأرض، وأما أن كونه تعالى ولم يكن معه شيء وكون عرشه سبحانه على الماء، وكتابته في الذكر ما كتب كلها في وقت واحد هو وقت وجوده تعالى الواقع بعده خلق السموات والأرض بمهلة وتراخ فلا أراه، وقد جاء في بعض الروايات عطف الخلق على ما قبله بالواو كسائر المعطوفات.
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين قال: «قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله تعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح الحفوط ذكر كل شيء وخلق السموات والأرض» الخبر، ثم إنه لا يتم أمر الشهادة بمجرد ما تقدم بل لابد أيضًا من حمل الكتابة في الذكر على التقدير، ونفى أن يكون هناك كتابة ومكتوب فيه حسبما يتبادر منهما، ويلتزم هذا في الخبر الثاني أيضًا، ومع ذلك يعكر على القول بكون زمن التقدير متحدًا كزمن قيوميته وحياته تبارك وتعالى مع زمن وجوده سبحانه ما أخرج مسلم. والترمذي. والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» لأن أجزاء الزمان الموهوم الفاصل بين زمان وجوده تعالى ووجود صفاته وزمان وجود الخلق غير متناهية، فكيف تقدر بخمسين ألف سنة وضربها في نفسها وضرب الحاصل من ذلك بنفسه ألف ألف مرة أقل قليل بل لا شيء يذكر بالنسبة إلى غير المتناهى؛ ويعارض هذه الشهادة أيضًا ما تقدم في حديث أبي رزين العقيلي من قوله عليه الصلاة والسلام: «وخلق عرشه على الماء» فإنه نص في أن العرش مخلوق، ولا يجوز أن تكون القيومية مخلوقة، وكذا ما روي عن كعب من أنه سبحانه خلق ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماءًا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء، وجاء حديث كون الماء على متن الريح عن ابن عباس، وقد أخرج ذلك عنه ابن جرير. وابن المنذر. والحاكم وصححه. والبيهقي. وغيرهم، وإباء ما ذكر عن كون الماء بمعنى صفة الحياة له تعالى ظاهر، ومثله ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه قال: كان عرشه سبحانه على الماء فلما خلق السموات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفًا تحت العرش وهو البحر المسجور فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور فينزل منه مثل الطل فتنبت منه الأجسام، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى، ولعل وجه الأمر بالتدبر في كلام هذا الفاضل الإشارة إلى ما ذكرنا.
وبالجملة لا شك أن المتبادر من الماء ما هو أحد العناصر ومن العرش الجسم الذي جاء في الأخبار من وصفه ما يبهر العقول وشهادة الخبر السابق مع كونها شهادة نفي عارضتها شهادات إثبات غير نص في المطلوب كما علمت، ومن كون العرش على الماء ما يعم الشقين كونه موضوعًا على متنه مما ساله وكونه فوقه من غير أن يكون بينهما ما يماسهما، وتخصيصه بالشق الثاني مما لا يتم له دليل ولا يصفو عن القال والقيل، وأن الآية لا تصلح دليلًا على كون الماء أول حادث بعد العرش، ومن رجع إلى الأخبار المعول عليها رأي بعضها كخبر أبي رزين الذي حسنه الترمذي ظاهرًا في أن الماء قبل العرش، وقصارى ما يقال في هذا المقام: إن الحق مع شيخ الإسلام وأن نصرة القاضي وإن كان ناصر الدين نصرة خارجة عن الطريق المستبين، فلا تلتفت هداك الله سبحانه إلى من أطال في ذلك بلا طائل، وأتى بكلام لا يشبه كلام عاقل، وزعم أن ذاك من الحكمة وهو عنها علم الله بمراحل، ولولا الوقوع في العبث لنقلناه ونبهنا على ما فيه، وإن كان حال ظاهره مؤذنًا بحال خافيه، نعم قد يقال: إن البيضاوي إنما ذكر أنه استدل بالآية على كذا وكذا، ولم يدّع أن فيها دليلًا على ذلك، فما يتوجه من الاعتراضات إنما يتوجه على المستدل دونه وكأنه من وجه إليه ذلك ادعى ارتضاءه للاستدلال بدليل ما وطأه له من المقال، وزعم الجبائي أن في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السموات والأرض حي مكلف لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف بمكلف يمكنه الاستدلال به، ورده على ابن عيسى بأنه لا يلزم ذلك ويكتفي بكون الأخبار به نافعًا للمكلفين واختاره المرتضى، ومنشأ ذلك الاعتزال، والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
{لِيَبْلُوَكُمْ} اللام للتعليل مجازًا متعلقة ب: {خُلِقَ} أي خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معاشكم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم.
{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فيجازيكم حسب أعمالكم، وقيل: متعلق بفعل مقدر أي أعلم بذلك: {لِيَبْلُوَكُمْ} وقيل: التقدير وخلقكم: {لِيَبْلُوَكُمْ} وقيل: في الكلام جملة محذوفة أي وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الآخرة وفعل ذلك: {لِيَبْلُوَكُمْ} والكل كما ترى، والابتلاء في الأصل الاختبار والكلام خارج مخرج التمثيل والاستعارة، ولا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور.
وقيل: إنه مجاز مرسل عن العلم للتلازم بين العلم والاختبار، وهو محوج إلى تكلف أن يراد ليظهر تعلق علمه الأزلي وإلا فالعلم القديم الذاتي ليس متفرعًا على غيره، وما تقدم لا تكلف فيه، وهو مع بلاغته مصادف محزه، والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل القالب، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِيَبْلُوَكُمْ} إلخ فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: «ليبلوكم أيكم أحسن عقلا»، ثم قال: «وأحسنكم عقلًا أورعكم عن محارم الله تعالى وأعملكم بطاعة الله تعالى» لكن ذكر الحافظ السيوطي أن سنده واه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن معنى: {أَحْسَنُ عَمَلًا} أزهد في الدنيا، وعن مقاتل أتقي لله تعالى، وعن الضحاك أكثرهم شكرًا، ولعل أخذ العمل شاملًا للأمرين أولى، وأفضلها ما كان عمل القلب كيف لا ومدار العبادة القالبية الواجبة على العباد معرفة الله تعالى التي تحل القلب، وقد يرفع به للعبد في يوم مثل عمل أهل الأرض.
وفي بعض الآثار: تفكر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة. واعتبار خلق السموات في ضمن المفرع عليه لما أن في السموات مما هو من مبادي النظر وتهيئة أسباب المعاش الأرضية التي بها قوام القالب ما لا يخفى، وقريب من هذا أن ذكر السموات وخلقها لتكون أمكنة الكواكب والملائكة العاملين فيها لأجل الإنسان.
وقال بعض المحققين: إن كون خلق الأرض وما فيها للابتلاء ظاهر، وأما خلق السموات فذكر تتميمًا واستطرادًا مع أن السموات مقر الملائكة الحفظة وقبلة الدعاء ومبهط الوحي إلى غير مما له دخل في الابتلاء في الجملة، ولعل ما أشير إليه أولًا أولى، وجملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني لفعل البلوي على المشهور، وجعل في الكشاف الفعل هنا معلقًا لما فيه من معنى العلم، ومنع في سورة الملك تسمية ذلك تعلقًا مدعيًا أنه إنما يكون إذا وقع بعد الفعل ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعًا كعلمت أيهما فعل كذا.
وعلمت أزيد منطلق وبين كلاميه في السورتين اضطراب بحسب الظاهر، وأجاب عنه في الكشف بما حاصله أن للتعليق معنيين: مصطلح ويعدى بعن وهو المنفى في تلك السورة.
ولغوي ويعدى بالباء وعلى، وهو خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين ولا يكون إلا في الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوه، ومعنى تعليق الفعل على ما فيه ذلك أن يرتبط به معنى وإعرابًا سواء كان لفظًا أو محلا وهو المثبت ههنا، وقال الطيبي: يمكن أن يكون ما هنا على إضمار العلم كأنه قيل: {لِيَبْلُوَكُمْ} فيعلم: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} والتعليق فيه ظاهر، وما هناك على تضمين الفعل معنى العلم كأنه قيل: ليعلمكم أيكم إلخ فيصح النفي، ولا يخفى على من راجع كلامه أن فيه ما يأبى ذلك، وقد يقال: إن التعليق لا يختص بما كان من الأفعال بمعنى العلم كما ذهب إليه ثعلب والمبرد وابن كيسان، وإن وجهه أويس بما في همع الهوامع، ورجحه الشلوبين، ولا بالفعل القلبي مطلقًا بل يكون فيه وفي غيره مما ألحق به لكن من الاستفهام خاصة، واقتصر بعضهم في الملحق على بصر وتفكر.
وسأل وزاد ابن خروف نظر ووافقه ابن عصفور وابن مالك، وزاد الأخير نسى كما في قوله:
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم

ونازعه أبو حيان بأن من تحتمل الموصولية والعائد محذوف أي من هم أنتم، وكذا زاد أيضًا ما قارب المذكورات من الأفعال التي لها تعلق بفعل القلب كترى البصرية في قوله: أما ترى أي برق هنالك، وكيستنبئون في قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] وكنبلو فيما نحن فيه، ونازعه أبو حيان بأن ترى في الأول علمية، وأيكم في الأخير موصولة حذف صدر صلتها فبنيت وهي بدل من ضمير الخطاب بدل بعض، ونقل ذلك عنه الجلال السيوطي ولم أجده في بحره، وفي الرضى أن جميع أفعال الحواس تعلق عن العمل، وفي التسهيل ما يؤيده، وأجاز يونس تعليق كل فعل غير ما ذكر، وخرج عليه: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] والجمهور لم يوافقوه على ذلك، وقد ذكر بعض الفضلاء أن الفعل القلبي وما جرى مجراه إما متعد إلى واحد أو اثنين، فالأول يجوز تعليقه سواء تعدى بنفسه كعرف، أو بحرف كتفكر لأن معموله لا يكون إلا مفردًا، وبالتعليق بطل عمله في المفرد الذي هو مقتضاه وتعلق بالجملة، ولا معنى للتعليق إلا إبطال العمل لفظًا لا محلا وإن تعدى لاثنين، فإما أن يجوز وقوع الثاني جملة كما في باب علم أولا، فإن جاز علق عن المفعولين نحو علمت لزيد قائم لا عم الثاني لأنه يكون جملة بدون تعليق فلا وجه لعده منه إذ لا فرق بين أداة التعليق وعدمها فالتعليق لا يبطل عمل الفعل أصلًا كما في علمت زيدًا أبوه قائم، وعلمت زيدًا لا أبوه قائم، فإن عمله في محل الجملة لا فرق فيه بين وجود حرف التعليق وعدمه وإن لم يجز، وورد فيه كلمة تعليق كان منه نحو: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة: 215] فإن المسؤول عنه لا يكون إلا مفردًا.
والفعل فيما نحن فيه يحتمل أن يكون عاملًا فيما بعده وهو المختبر به غير متضمن علمًا، وفعل البلوي إذا كان كذلك يتعدى بالباء إلى المختبر به ولا يكون إلا مفردًا كما في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء} [البقرة: 155] والاستفهام قد أبطل مقتضاه لفظًا وهو التعليق، ويحتمل أن يكون متضمنًا معنى العلم ويكون العلم عاملًا فيه وهو مفعوله الثاني، وحينئذ لا تعليق، ومن هنا يظهر أن تعليق الفعل في الآية إنما هو على تقدير إعمال فعل البلوى، وعدم تعليقه على تقدير إعمال العلم فلا منافاة بين الكلامين انتهى وهو تفصيل حسن، وفي الهمع أن الجملة بعد المعلق في باب علم وأخواتها في موضع المفعولين فإن كان التعليق بعد استيفاء المفعول الأول فهي في موضع المفعول الثاني، وأما في غير هذا الباب فإن كان الفعل مام يتعدى بحرف الجر فالجملة في موضع نصب باسقاطه نحو فكرت أهذا صحيح أم لا، وجعل ابن مالك منه: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا} [الكهف: 19] وإن كان مما يتعدى لواحد فهي في موضعه نحو عرفت أيهم زيد، فإن كان مفعوله مذكورًا نحو عرفت زيدًا أبو من هو، فالجملة بدل منه على ما اختاره السيرافي وابن مالك، وهو بدل كل من كل بتقدير مضاف أي قصة زيد أو أمره عند ابن عصفور، والتزم ذلك ليكون المبدل منه جملة في المعنى، وبدل اشتمال ولا حاجة إلى التقدير عند ابن الصائغ.
وذهب المبرد والأعلم وابن خروف وغيرهم إلى أن الجملة في موضع نصب على الحال، وذهب الفارسي إلى أنها في موضع المفعول الثاني لعرفت على تضمينه معنى علمت، واختاره أبو حيان وفيه نوع مخالفة في الظاهر لما تقدم تظهر بالتأمل إلا أنه اعترض القول بأن ما بعد فعل البلوي مختبر به بأن المختبر به إنما هو خلق السموات والأرض، وأجيب بأن ذلك وإن كان في نفس الأمن مختبرًا عنه والمختبر به ما ذكر إلا أنه جعل مختبرًا به باعتبار ترتبه على ذلك، ولا يحفى ما فيه، وقال بعض أرباب التحقيق في دفع المخالفة: إن الزمخشري جعل قوله سبحانه هنا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} بجملته استعارة تمثيلية فتكون مفرداته مستعملة في معناها الحقيقي معطاة ما تستحقه، وفعل البلوي يعلق عن المفعول الثاني لأنه لا يكون جملة إذ هو يتعدى له بالباء وحرف الجر لا يدخل على الجمل، وجرى التعليق فيه بناءًا على أنه مناسب لفعل القلوب معنى، وقد صرح غير واحد بجريانه في ذلك وجعله ثمة مستعارًا لمعنى العلم، والفعل إذ تجوز به عن معنى فعل آخر عمل عمله وجرى عليه حكمه، وعلم لا يعلق عن المفعول الثاني فكذا ما هو بمعناه فيكون قد سلك في كل من الموضعين مسلكًا تفننا، وكثيرًا ما يفعل ذلك في كتابه، ولعله لم يعكس الأمر لأن ما فعله في كل أنسب بما قبله من خلق السموات والأرض وما فيها من النعم والمنافع وخلق الموت والحياة، ولا يخفى أن هذا قريب مما تقدم وفيه ما فيه.
والاتيان بصيغة التفضيل الدالة على الاختصاص بالمختبرين ألا حسنين أعمالًا مع شمول الاختبار لفرق المكلفين وتتفاوت أعمال الكفار منهم إلى حسن شرعي وقيبح لا إلى حسن وأحسن كما في أعمال المؤمنين للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقي دائمًا لدلالته على أن الأصل المقصود بالاختبار ذلك الفريق ليجازيهم أكمل الجزاء فكأنه قيل: المقصود أن يظهر أفضليتكم لأفضلكم فإن ذلك مفروغ عنه لا يحيد عنه ذولب، وجوز أن يكون من باب الزيادة المطلقة وأن يكون من باب: {أي الفريقين خير مقامًا}، [مريم: 73] وأيًا مّا كان فالخطاب ليس خاصًا بالمؤمنين لأن إظهار حال غيرهم مقصود أيضًا لكنه لا بالذات على الوجه الأول.
{وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي مثله في الخديعة والبطلان، فالتركيب من التشبيه البليغ، والإشارة إلى القول المذكور، وجوز أن تكون للقرآن كأنه قيل: لو تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث لقالوا هذا المتلو يحر، والمراد إنكار البعث بطريق الكناية الايكائية لأن إنكار البعث إنكار للقرآن، وقيل: إن الاخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم لم يجب عن كونه بطريق الوحي المتلو إلى أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لانبائه عنه في كل موضع وكونه علمًا عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه، وتسميته سحرًا تماديًا منهم في العناد وتفاديًا عن سنن الرشاد وهو خلاف الظاهر، وقيل: الإشارة إلى نفس البعث، وتعقب بأنه لا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرًا لا أصل له في الحقيقة، ونفس البعث عندهم معدوم بحت، وفيه بحث لجواز أنهم أرادوا من السحر الأمر الباطل والشيء الذي لا أصل له ولا حقيقة لشيوعه فيما بينهم بذلك حتى كأنه علم له.
وجوز أن تكون الإشارة إلى القائل، والاخبار عنه بالسحر للمبالغة، والخطاب في: {إِنَّكُمْ} إن كان لجميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولنّ الكافرون منهم، وإن كان للكافرين فذكر الموصول ليتوصل به إلى ذمهم بعنوان الصلة، وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث أن البعث من تتمات الابتلاء المذكور فيه كأنه قيل: الأمر كما ذكر، ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فردة من تتماته يقولون ما يقولون فضلًا عن أنهم يصدقون بما وقع هذا تتمة له، وإما من حيث أن البعث خلق جديد فكأنه قيل: وهو الذي خلق جميع المخلوقات ليترتب عليها ما يترتب، ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه سبحانه يعيدهم تارة أخرى وهو أهون عليه يعدون ذلك ما يعدون فسبحان الله عما يصفون.
وقرأ عيسى الثقفي: {وَلَئِن قُلْتَ} بضم التاء على أن الفعل مسند إليه تعالى أي: {وَلَئِن قُلْتَ} ذلك في كتابي المنزل عليك: {لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ} إلخ، وفي البحر أن المعنى على ذلك: {وَلَئِن قُلْتَ} مستدلًا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى: {وَهُوَ الذى خَلَقَ} [الحديد: 4] إلخ دلالة على القذرة العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه انتهى وهو لدى الذوق السليم كماء البحر.
وقرأ الأعمش: {إِنَّكُمْ} بفتح الهمزة على تضمين: {قُلْتَ} معنى ذكرت: {وَلَئِن قُلْتَ} ذاكرًا: {إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ} فإن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول للذكر، واستظهر بعضهم كون القول بمعنى الذكر مجازًا، وتعقب بأن الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ، ولما كان القول باقيًا في التضمين جاء الخطاب على مقتضاء.
وجوز أن تكون أن بمعنى علّ، ونقل ذلك عن سيبويه، وجاء ائت السوق علك تشتري لحمًا وأنك تشتري لحماف، وهي لتوقع المخاطب لكن لا على سبيل الأخبار فإنهم لا يتوقعون البعث بل على سبيل الأمر كأنه قيل: توقعوا بعثكم ولا تبتوا القول بانكاره، وبذلك يندفع ما يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بالبعث فكيف يقول لعلكم مبعوثون، وأيضًا القراءة المشهورة صريحة في القطع والبت، وهذه صريحة في خلافه فيتنافيان، ومنهم من قال: يجوز أن يكون هذا من الكلام المنصف والاستدراج فربما ينتبهون إذا تفكروا ويقطعون بالبعث إذا نظروا.
وقرأ حمزة والكسائي إلا ساحر والإشارة إلى القائل، ولا مبالغة في الإحبار كما كانت على هذا الاحتمال في قراءة الجمهور، ويجوز أن تكون للقول أو للقرآن، وفيه من المبالغة ما في قولهم: شعر شاعر. اهـ.